فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ جمهور الناس: {وفرُش} بضم الراء. وقرأ أبو حيوة: {وفرْش} بسكونها، والفرش: الأسرة، وروي من طريف أبي سعيد الخدري: أن في ارتفاع السرير منها خمسمائة سنة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا والله أعلم لا يثبت، وإن قدر فمتأولًا خارجًا عن ظاهره. وقال أبو عبيدة وغيره: أراد بالفرش النساء.
و: {مرفوعة} معناه: في الأقدار والمنازل، ومن هذا المعنى قول الشاعر عمرو بن الأهتم التميمي: البسيط:
ظللت مفترش الهلباء تشتمني ** عند الرسولِ فلم تصدقْ ولم تصب

ومنه قول الآخر في تعديد على صهره:
وأفرشتك كريمتي

وقوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} قال قتادة: الضمير عائد على الحور العين المذكورات قبل وهذا فيه بعد، لأن تلك القصة قد انقضت جملة. وقال أبو عبيدة معمر: قد ذكرهن في قوله: {فرش} فلذلك رد الضمير وإن لم يتقدم ذكر لدلالة المعنى على المقصد، وهذا كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32] ونحوه: و: {أنشأناهن} معناه: خلقناهن شيئًا بعد شيء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: «عجائزكن في الدنيا عمشًا رمصًا» وقال لعجوز: «إن الجنة لا يدخلها العجز»، فحزنت، فقال: «إنك إذا دخلت الجنة أنشئت خلقًا آخر».
وقوله تعالى: {فجعلناهن أبكارًا} قيل معناه: دائمات البكارة متى عاود الواطئ وجدها بكرًا. والعرب جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها بإظهار محبته، قاله ابن عباس والحسن، وعبر عنهم ابن عباس أيضًا بالعواشق، ومنه قول لبيد:
وفي الحدوج عروب غير فاحشة ** ريا الروادف يعشى دونها البصر

وقال ابن زيد العروب: الحسنة الكلام، وقد تجيء العروب صفة ذم على غير هذا المعنى وهي الفاسدة الأخلاق كأنها عربت ومنه قول الشاعر ابن الأعرابي: الطويل:
وما بدل من أم عثمان سلفع ** من السود ورهاء العنان عروب

وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي: {عرُبًا} بضم الراء. وقرأ حمزة والحسن والأعمش: {عرْبًا} بسكونها وهي لغة بني تميم، واختلف عن نافع وأبي عمرو وعاصم.
وقوله: {أترابًا} معناه في الشكل والقد حتى يقول الرائي هم أتراب، والترب هو الذي مس التراب مع تربه في وقت واحد. قال قتادة: {أترابًا} يعني سنًا واحدة، ويروى أن أهل الجنة على قد ابن أربعة عشر عامًا في الشباب والنضرة، وقيل على مثال أبناء ثلاث وثلاثين سنة مردًا بيضًا مكحلين.
واختلف الناس في قوله: {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره، الأولون: سالف الأمم، منهم جماعة عظيمة أصحاب يمين، والآخرون: هم هذه الأمة، منهم جماعة عظيمة أهل يمين.
قال القاضي أبو محمد: بل جميعهم إلا من كان من السابقين. وقال قوم من المتأولين: هاتان الفرقتان في أمة محمد، وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الثلثان من أمتي» فعلى هذا التابعون بإحسان ومن جرى مجراهم ثلة أولى، وسائر الأمة ثلة أخرى في آخر الزمان. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين}.
رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدّم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه.
{فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} أي في نبق قد خُضد شوكه أي قطع؛ قاله ابن عباس وغيره.
وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يومًا؛ فقال: يا رسول اللها لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذيةً، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما هي» قال: السِّدر فإن له شوكًا مؤذيًا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «أو ليس يقول: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} خَضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرًا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونًا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر». وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وَجٍّ (وهو وادٍ بالطائف مخصب) فأعجبهم سِدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا؛ فنزلت.
قال أمية بن أبي الصَّلْت يصف الجنة:
إنّ الحدائقَ في الجِنانِ ظليلةٌ ** فيها الْكَواعِبُ سِدْرُها مَخْضودُ

وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} وهو الموقر حملًا.
وهو قريب مما ذكرنا في الخبر.
سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القِلال.
وقد مضى هذا في سورة (النجم) عند قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} [النجم: 14] وأن ثمرها مثل قلال هَجَر من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الطَّلْح شجر الموز واحده طلحة.
قاله أكثر المفسرين عليّ وابن عباس وغيرهم.
وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب.
وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك؛ قال بعض الحداة وهو الجعدي:
بَشَّرَهَا دَليلُها وقالاَ ** غدًا تَرْينَ الطَّلْحَ والأَحْبَالاَ

فالطَّلْح كلّ شجر عظيم كثير الشوك.
الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه.
وقال الزجاج أيضًا: كشجر أم غيلان (له) نَوْر طيّب جدًا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.
وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل.
وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: {وَطلْعٍ مَنْضُودٍ} بالعين وتلا هذه الآية {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} وهو خلاف المصحف.
في رواية أنه قرئ بين يديه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو {وَطَلْعٍ مَنْضُودٍ} ثم قال: {لَهَا طَلْعٌ نَضَيدٌ} فقيل له: أفلا نحوّلها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحوَّل.
فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رَسْمه مجمَع عليه.
قاله القشيري، وأسنده أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عُبَاد قال: قرأت عند عليّ أو قرئت عند عليّ شَك مجالد {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} فقال عليّ رضي الله عنه: ما بال الطلح؟ أما تقرأ {وَطَلْع} ثم قال: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكّها من المصحف؟ فقال: لا لايهاج القرآن اليوم.
قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قوله.
والمنضود المتراكب الذي قد نُضدَ أوّله وآخره بالحمل، ليست له سُوقٌ بارزة بل هو مرصوص، والنَّضْد هو الرصّ والمنضَّد المرصوص، قال النابغة:
خَلَّتْ سَبِيل أَتِيٍّ كان يَحْبِسُهُ ** ورَفَّعَتْهُ إِلى السِّجْفَيْنِ فالنضَدِ

وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كلّه، كلّما أكل ثمرة عاد مكانها أحسنُ منها.
قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس؛ كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] وذلك بالغداة وهي ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدّم بيانه هناك.
والجنة كلها ظلّ لا شمس معه.
قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش.
وقال عمرو بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة.
وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود؛ وقال لبيد:
غَلَبَ الْعَزَاء وكنتُ غيرَ مُغَلِّبٍ ** دَهرٌ طويلٌ دائِمٌ مَمْدودُ

وفي صحيح الترمذيّ وغيره من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ}» {وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ} أي جارٍ لا ينقطع وأصل السّكب الصبّ؛ يقال: سكبه سَكْبًا، والسُّكُوب انصبابه؛ يقال: سَكَب سُكُوبًا، وانسكب انسكابا؛ أي وماء مصبوب يجري الليلَ والنهار في غير أُخدود لا ينقطع عنهم.
وكانت العرب أصحاب بادية وبلادٍ حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدَّلو والرِّشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار واطرادها.
قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم {لاَّ مَقْطُوعَةٍ} أي في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء {وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} أي لا يُحظَر عليها كثمار الدنيا.
وقيل: {وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} أي لا يُمنع من أرادها بشوك ولا بُعد (ولا) حائط، بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها؛ قال الله تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14].
وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان.
والله أعلم.
قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} روى الترمذيّ عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} قال: «ارتفاعها لَكَمَا بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة». قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رِشْدِين بن سعد.
وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفُرُش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض.
وقيل: إن الفُرُش هنا كناية عن النّساء اللواتي في الجنة ولم يتقدّم لهنّ ذكر، ولكن قوله عز وجل: {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} دالٌّ؛ لأنها محل النّساء؛ فالمعنى ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهنّ وكمالهنّ؛ دليله قوله تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} أي خلقناهنّ خلقًا وأبدعناهنّ إبداعًا.
والعرب تسمي المرأة فِراشًا ولبِاسًا وإِزارًا؛ وقد قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} [البقرة: 187].
ثم قيل: على هذا هنّ الحور العين؛ أي خلقناهنّ من غير ولادة.
وقيل: المراد نساء بني آدم؛ أي خلقناهنّ خلقًا جديدًا وهو الإعادة؛ أي أعدناهنّ إلى حال الشباب وكمال الجمال.
والمعنى أنشأنا العجوز والصَّبِية إنشاءً واحدًا، وأضمرن ولم يتقدّم ذكرهنّ؛ لأنهنّ قد دخلن في أصحاب اليمين؛ ولأن الفُرُش كناية عن النساء كما تقدّم.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} قال: «منهنّ البِكْر والثَّيِّب».
وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} فقال: «يا أمّ سلمة هنّ اللواتي قُبِضن في الدنيا عجائز شُمْطًا عُمْشًا رُمْصًا جعلهنّ الله بعد الكبر أترابًا على ميلاد واحد في الاستواء» أسنده النحاس عن أنس قال: حدّثنا أحمد بن عمرو قال: حدّثنا عمرو بن عليّ قال: حدّثنا أبو عاصم عن موسى بن عبيدة، عن يزيد الرقاشي. عن أنس بن مالك رفعه: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} قال: «هنّ العجائز العُمْش الرُّمْص كُنّ في الدنيا عُمْشًا رُمْصًا» وقال المسيِّب بن شريك: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} الآية قال: هنّ عجائز الدنيا أنشأهنّ الله خلقًا جديدًا كلما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارًا» فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاها فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ليس هناك وجع». {عُرُبًا} جمع عَروُب.